ضرورة الانتقال من مرحلة القيم إلى مرحلة الإجراءات
![]() |
| د. محمد المختار الشنقيطي |
الدكتور محمد المختار الشنقيطي أستاذ مادة "الأخلاق السياسية" في عدد من الجامعات, واشتهر عنه تحليله الناضج لسياسات الأمة التاريخية, وبراعته في الإسقاط على الحاضر, واستشرافه مالات المستقبل واحتياجاته في ضوء فهمه لواقع الأمة.
وقد تناول في الفصل السادس والأخير من كتابه الذي ابدع فيه "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" تناول الشرط الثاني لخروج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية، وهو:
"الانتقال من القيم إلى الإجراءات"
ويعني الشنقيطي بذلك ترجمة القيم السياسية الإسلامية الرائعة التي أتى بها ديننا الحنيف إلى مؤسسات وإجراءات دستورية منسجمة مع منطق الدولة المعاصرة بمصطلحاتها وأدواتها.
وقدم الفصل معايير لإسلامية أنظمة الحكم المعاصرة في شكل جدول يترجم ثلاثين من القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة إلى أحكام دستورية عملية في دولة معاصرة، مبيناً أن الحد الأدنى لإسلامية نظام الحكم يتضمن شرطيْ الشورية:
- بأن تكون الدولة ديمقراطية.
- والمرجعية: بأن تستند الدولة إلى النص
الإسلامي أخلاقا وتشريعا.
مع ضرورة التمييز بين الالتزام الأخلاقي
والإلزام القانوني، وأهمية الانتقال من ثقافة الإكراه والقهر والزجر إلى ثقافة
الإقناع والتراضي.
![]() |
| د. محمد المختار الشنقيطي |
ثم تحدث الشنقيطي عن الديناميكية الثقافية التي ظهرت في صدر الإسلام، وضرورة استلهامها في الزمن الحاضر، من خلال استثمار المحفِّز الغربي، خصوصا في مجال المؤسسات والإجراءات السياسية الذي هو مجال تراكميٌّ متحرك، ويحتاج المسلمون الاستمداد فيه من الأمم التي سبقتهم على درب التطور السياسي.
ويرى الشنقيطي أنه يمكن حل الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية عبر استمدادٍ واسع من الكسب النظري والعملي الذي توصلت إليه الأمم الغربية الديمقراطية، وهذا الاستمداد سيُثري ثقافة المسلمين إذا تعاملوا معه بتواضع المتعلِّم، وثقة الراشد، بعيداً عن عُقد الدونية أو الاستعلاء، وسينبِّههم هذا الاستمداد على إمكانات معطَّلة في دينهم ما كانوا لينتبهوا إليها دون ذلك.
وهناك تأكيد على ضرورة أن يَبْذُر المسلمون في
تربتهم الثقافية الخاصة، وأن يتملَّكوا ما يستمدونه من حضارات وثقافات أخرى،
فاستعارة الفكرة في ذاتها لا تكفي لجعلها زاداً صالحاً، بل يتعين تملُّك الفكرة،
ونقْعُها في رحيق الثقافة المستعيرة، وإخضاعها لمنطقها الأخلاقي والعملي.
وأخيرا خلَص الفصل إلى ضرورة انتقال الثقافة الإسلامية من منطق الإمبراطورية القديمة إلى منطق الدولة العقارية المعاصرة. ويعني بأن أغلب الدول الإسلامية بعد عصر الخلافة الراشدة كانت إمبراطوريات أو شبه إمبراطوريات, ييتصف بما تتصف به الإمبراطوريات من افتئات على بعض الحقوق العامة, السياسية والمجتمعية.
بما يعنيه ذلك من مساواة بين المواطنين - مسلمين وغير مسلمين - في الحقوق والواجبات، فمِن التناقض الأخلاقي والمنطقي أن يدعوَ المسلم إلى دولة العدل والحرية، وهو يَحْرم مخالفيه في المعتقد -ممن تجمعهم به أرحام الدم واللسان والتاريخ والجغرافيا- من التمتع بثمارها في هذا المضمار، فذلك تطفيفٌ مناقض لمنطوق القرآن، وهو يضع المسلم في مفارقة أخلاقية لا تليق به ولا برسالته، لأنها تجعله ضحيةً للظلم ومسوِّغاً له في الوقت ذاته.
إخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية سيفلح
إذا اتسم بسِمتين:
* الاولى:
أن يكون مُقنعاً للضمير المسلم المتعلق بالقيَم السياسية الإسلامية وبتجربة الإسلام السياسية الأولى، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاًّ عَلمانياًّ منبتاًّ عن وجدان الشعوب ومزاجها الديني والأخلاقي.
* الثانية:
أن يكون مُنسجما مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجاً عنها أو عليها، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلاًّ سَلَفياًّ مستأسراً للذاكرة التاريخية المستمدَّة من الإمبراطوريات الإسلامية الغابرة.
ويرى الشنقيطي أن الخيار العلماني مستحيل
إسلامياًّ، والخيار السلفي مستحيل إنسانياًّ، والحل هو المنهج الإسلامي التركيبي
الذي يجمع بين الديني والمدني.
![]() |
| نهاية جمهورية روما |
دعوة الى عدم جلد الذات:
ويدعونا الشنقيطي إلى عدم جلد ذواتنا فلسنا نحن فقط من مر بمرحلة الامبراطوريات بما فيها من افتئات على الحقوق والحريات العامة, فقد مر بهذه المرحلة كل دول العالم بلا استثناء. ويؤكد على ما يلي:
- لم يكن المسلمون بدْعاً في تراجع القيَم السياسية في تاريخهم أمام السياقات الإمبراطورية التي تسلب الحريات والحقوق.
- انحسرتْ القيم الديمقراطية في أثينا قبل
الإسلام بقرون وليس بعد قدوم الإسلام.
- انحسرت في روما الجمهورية - أمام الروح
الإمبراطورية.
- ظلت القيم الديمقراطية تنتظر وقتها حتى جاءت فرصة التحقق مع النهضة الأوربية الحديثة.
- تفتقت مع ثورات الربيع العربي فرصة عظيمة أمام القيم السياسية الإسلامية للانبعاث.
ويختم الشنقيطي الفصل الأخير بتصريحه المتأثر باندلاع ثورات الربيع العربي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين, حيث يقول:
"ويبدو أن الربيع العربي بداية تحوُّل تاريخي عميق، سيقود إلى تجديد نضارة الحضارة الإسلامية، وتحريرها من أزمتها الدستورية، ومن رَهَقِ سيف الإمامة الذي أنهكها عبر القرون."




ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق