الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

التحالفات القطرية : تحليل حالة التحالف القطري التركي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التحالفات القطرية

 

الجزء الأول: تحليل حالة التحالف القطري التركي

يونيو 2019م

 

إعداد: د. أيمن إبراهيم

 


 

الجزء الأول:

 

تحليل حالة التحالف القطري التركي

 

يترجم السفير التركي في الدوحة أحمد دميروك حالة التحالف التركي القطري الحالية بعبارة موجزة:

"العلاقات التركية القطرية في أوج ازدهارها بالفعل، وعلى مدى العقد الماضي اكتسبت زخما قويا، واستنادا إلى العلاقات التاريخية القوية والانتماءات الثقافية أستطيع أن أقول إن تركيا وقطر تتمتعان بأفضل علاقة تجمع بين أي بلدين في العالم". (1)

فمع فجر الخامس من يونيو 2017، ومع بدء المقاطعة الرباعية لقطر، فقد اعتمدت الدوحة ضمن سياساتها لكسر الحصار على ورقتين، الأولى اللعب على ورقة مصالح الشركات الدولية العاملة في قطر، والثانية ورقة تقوية التحالفات الاستراتيجية. وذلك باستخدام قطاع الطاقة مصدر القوة القطرية الأول، ثم قطاع التشييد والانشاءات ثاني أكبر القطاعات العاملة في قطر، استثمرت الدوحة هذين القطاعين في لعبها بالورقتين المذكورتين.

 

أولا: قطر وسياسة التحالفات

مع بوادر القلق على المستقبل عشية إعلان الرباعية مقاطعتها لقطر، ومواكبة ذلك لتصريحات الرئيس ترامب الغامضة والمتلاعبة بالطرفين، وتخلل ذلك شبح الغزو العسكري الوشيك ضدها من جيران لا قبل لها بهم، فقد سارعت الدوحة الى التعجيل بسريان معاهدات قديمة، وتقوية تحالفات إقليمية تنفي عنها وحدتها، وتقلل من احتمالات الغزو العسكري.

ولأن قطر تدرك مدى هزالتها أمام أية تهديدات عسكرية، وتدرك أن أمنها واستقلالها يكمن في إيجاد حماية من قوى أكبر حجماً من جيرانها الطامعين في ثرواتها، فقامت بالآتي:

على صعيد التحالفات الدولية:

§        فقد أعادت التأكيد على متانة العلاقات العسكرية مع البنتاجون وقيادة المنطقة الوسطى وما تقدمه لهم من خلال اتفاقية قاعدة العديد، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة، وعقدت اتفاقية مكافحة إرهاب مع وزير خارجيتها، واستثمرت ذلك في حصار الرئيس الأمريكي بهاتين المؤسستين القويتين، البنتاجون والخارجية.

§        كما أحيت اتفاقيات عسكرية قديمة مع بريطانيا لم تكن مفعلة منذ الاستقلال.

§        وقامت بتنشيط اتفاقية عسكرية للتدريب والمناورات مع فرنسا، وقامت بزيادة حجم صفقة طائرات الرافال.

§        ثم غازلت روسيا بعرضها شراء منظومة إس 300 الصاروخية، وتفاهمت معها في مجال إدارة سوق الغاز، مشارِكة في رؤوس أموال عدة شركات روسية للطاقة.

 

أما على الصعيد الإقليمي، فقد اندفعت قطر في محورين:

1.     تمتين التحالف مع تركيا القوة الإقليمية الحيوية، والشريك في مناصرة الربيع العربي، والباحثة عن دور إقليمي وتاريخي فقدته بعد الحرب العالمية الاولى، والمتعطشة لموطئ قدم بالخليج، يزيد من وزنها النسبي وقدرتها على صناعة الأحداث، مستثمرة انكماش مصر في إقليمها العربي عقب الربيع العربي.

2.     بلورة تحالف مع الكويت وعمان، يعكس الخوف المشترك على المصالح في ظل محاولة الهيمنة من محور السعودية-الإمارات، وإطلاعهما على تسريبات وأدلة تثبت استهدافهما أيضا مع قطر، وهناك عدة مؤشرات تثبت نحاج هذا المنحى.

لقد لجأت الدوحة إلى كل ذلك، وإلى تبادل صفقات مدروسة لإنشاء مصالح مشتركة مع القوى الدولية الفاعلة مثل الصين والهند وألمانيا واليابان وكوريا، وإلى أية وسائل يمكن أن تسهم في خفض التهديد بالغزو العسكري من العمالقة المجاورين من ناحية، ولكسر عزلتها من ناحية اخرى.

وفي هذه الدراسة وضمن ورقة تقوية التحالفات، سنقوم بعرض ظاهرة التحالف القطري التركي، محاولة منا لفهمها وتحليلها وتقدير الموقف تجاهها، على أن نتناول التحالف القطري الكويتي العماني في حليل آخر منفصل إن شاء الله.

 

ثانياً: نحو فهم طبيعة العلاقة التركية -القطرية

- جذور تاريخية

- سمات العلاقة

- سلوك متكرر

- مارثون تمتين العلاقة

 

الجذور التاريخية:

إن العلاقات التركية القطرية تعود إلى فترة الحكم العثماني، حيث حدثت تفاهمت بين بريطانيا والعثمانيين في الخليج أدت إلى إطلاق يد العثمانيين في منطقتي الاحساء وقطر، وتحت ضغوط عسكرية وسياسية من مدحت باشا حاكم ولاية بغداد العثمانية وافقت عائلة آل ثاني الحاكمة على الخضوع للحكم العثماني في عام 1871م.

وعقب ذلك فرضت الحكومة العثمانية إجراءات ضريبية، وتسجيل الأراضي، لإدماج هذه المناطق بالكامل في الإمبراطورية، وانتهى هذا الحكم في سنة 1915م في اعقاب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم ممتلكاتها وفق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة، حيث آلت قطر للحماية البريطانية ضمن ممتلكاتها بالخليج.

 

سمات العلاقة:

من استقراء الأحداث التاريخية نستطيع القول إن العلاقة بين قطر وتركيا تميزت بالسمات الآتية:

- أنها علاقة تاريخية قديمة، وليست طارئة.

- أنها علاقة نفعية (مؤقتة) وليست أيدلوجية، على الأقل من الجانب القطري.

- أن لها أوقات مد وجذر، وصلت في أحيان إلى إعلان الولاء التام للخلافة العثمانية، وأحيان أخرى إلى الحرب بينهما، وتعد معركة الوجبة من أهم المعارك بين الطرفين، حيث ألحق القطريون الهزيمة بالحامية التركية بقلعة الوجبة آنذاك ليسجلوا استقلالهم عنهم.

وقد لعب مؤسس الإمارة جاسم بن ثاني وخلفاؤه على وتر هذه العلاقة لتثبيت استقلال المشيخة الوليدة عن الأتراك أنفسهم تارة، وعن شيوخ البحرين آل خليفة الحكام السابقين لقطر تارة أخرى، كما استخدمت مرارا للحماية من ابن سعود العملاق المجاور، وقد أسهب جون جوردن لوريمر في سرد هذه الأحداث في كتابه دليل الخليج بالقسم التاريخي، فيمكن العودة إليها لمن أراد التوسع في السرد التاريخي. (2)

 

"سلوك متكرر"

هرولة قطرية محسوبة وتعاطف تركي دائم:

ويمكن القول إن آل ثاني لايزالون ينتهجون نفس السلوك -بشكل كبير- في استعمال التحالفات الإقليمية للإبقاء على استقلالية إمارتهم الصغيرة أمام العمالقة المجاورين، فهي تبقي الأبواب جاهزة للفتح عند الحاجة.

وعلى نفس المنوال التاريخي، فقد سارعت الدوحة بطلب تسريع تنفيذ بنود المعاهدة العسكرية بينها وبين انقرة، التي ابرمها الطرفان منذ 19 ديسمبر 2014م، ولم تكن مفعلة بعد، ولعدم اعتماد البرلمان التركي لها بعد، حيث طلب تعديلات عليها سنة 2016م.

وعقب حصار قطر في يونيو 2017م، حدثت اتصالات مباشرة بين تميم وأردوغان، ليدير أردوغان الأزمة بنفسه، فاستهل ذلك بحملة إعلامية تركية واسعة للتعاطف مع قطر، الإمارة الصغيرة التابعة سابقا للإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى، والتي يحاصرها جيران جشعون مدفوعون من ترامب، وأن التاريخ يعيد نفسه، فقد حاصروها بنفس الطريقة من قبل عدة مرات بالقرن الماضي، ووصلتنا بعض المنشورات في هذا الصدد على الواتساب والماسنجر وغيرها.

وعقب تعبئة أردوغان للرأي العام، سارع البرلمان التركي باعتماد المعاهدة في مدة محدودة جداً، وأمر أردوغان بتفعيلها بنفس الأسبوع، حيث صادق عليها البرلمان التركي في السابع من يونيو 2017، وصادق عليها الرئيس أردوغان في التاسع من الشهر ذاته. وتشمل الاتفاقية:

- إقامة قاعدة عسكرية تركية في قطر.

- استخدام متبادل للموانئ البحرية والطائرات والمجال الجوي، وتمركز القوات العسكرية المتبادل.

- اتفاقية صناعات عسكرية دفاعية.

- تدريب القوات القطرية، وإجراء مناورات مشتركة. (3)

وقد بدأ الجيش التركي في إرسال دفعات من المشاة والمدرعات التركية الى قطر وصل بالتدريج إلى 5 ألاف جندي ومستشار عسكري، وواكب ذلك دعماً إعلامياً شعبياً كبيراً، اضطرت بعده المعارضة التركية إلى التوافق حوله مع الحكومة بسبب الضغط الشعبي.

وتبعت هذه الخطوة الحاسمة زيارة لوفود من المستثمرين الاتراك في شتى المجالات، ثم حملة إمداد وتموين كبرى في شهر رمضان، لتخفيف إجراءات الحصار في مجال الامن الغذائي والدواء وغيره من المجالات التي تحتاج الى تحركات سريعة. (4)

وبهذه الإجراءات فقد أثبتت انقرة للدوحة أنها حليف جدير بالثقة، وبأنه سيكون بجوارها عندما تحتاج إليه، وهو ما ترجمته الدوحة إلى خطاب امتنان لأنقرة، وإطلاق يدها فيما تريده من مجالات الاستثمار والدعم.

 

ماراثون تمتين العلاقة:

نظراً للأهمية الملحة لسرعة الوجود التركي بجوار قطر في أزمتها، فقد تسارعت وتيرة إجراءات تقوية هذا التحالف في العديد من المحاور، لدرجة أننا نستطيع تسميتها "مارثون تقوية العلاقة القطرية التركية"، ومثل هذا الاندفاع في العلاقات الدولية نادر الحدوث، فنحن نتحدث عن 15 قمة بين أردوغان وتميم، و40 اتفاقية في 39 شهرا، حتى نوفمبر 2017م فقط. (5)

 

ثالثاً: دوافع تجديد الحلف

نحتاج إلى التعرف على دوافع أنقرة والدوحة لإقامة هذا التحالف كجزء مهم في تحليلنا لهذه الظاهرة، إن من البديهي انخراط الدول الصغيرة في القلق على أمنها من تهديد الجيران الكبار, وقد تبذل في ذلك من مواردها واستقلال قرارها.

وسؤال آخر مهم هو: لماذا فضلت قطر ترك التكتل الإقليمي " مجلس التعاون الخليجي " الذي تباركه وتحميه القوى الكبرى، إلى تحالف ثنائي ناقص استراتيجيا لدولتين متباعدتين جغرافيا وعرقيا؟

كان تكتل مجلس التعاون الخليجي أفضل مناخا وأكثر جنياً للمكاسب طوال العقود السابقة، لأنه كان مبنيا على الندية بين أعضائه الستة مع بعض التقدير لحجم السعودية، ومع ظهور الربيع العربي وانحياز قطر له وتسخير قناة الجزيرة الكامل في هذا الملف، وكذلك مع تدخلات قطرية في ملفات داخلية سعودية اعلاميا، حدث تصادم في الرؤى مع محور السعودية-الامارات المناوئ للربيع العربي، وكذلك شعور السعودية أن قطر تفتات على مكانتها الإقليمية، ولا تنطلق من حجمها الحقيقي في أدائها السياسي الإقليمي والدولي.

وعامل آخر هام، فقد طرأت أفكار جديدة للبيت الأبيض الجديد، مبنية على رسم هيمنة سعودية، توفر مظلات عربية ودينية لبعض الاجندات، وعليه فقد شرعت السعودية في فرض حالة جديدة من الهيمنة على الإقليم من خلال دوائرها الخليجية والعربية والإسلامية، وهو ما لم تتفهمه قطر، حيث يقضي على كل جهودها طوال العقدين الماضيين في تكوين قوى ناعمة وأدوار في أغلب قضايا المنطقة.

ويعد هذا النوع من الأحلاف (السعودي – الخليجي) بما احتواه في العقد الأخير من محاولات هيمنة سعودية من أبرز مسببات عدم الإستقرار الدولي، إذ أنها تزيد من شعور الدول بالخطر وعدم الأمن، كما أنها تؤدي إلى زيادة حدة التوتر بالإقليم، فضلاً عن أنها تُساهم في نقل الصراع أوقات الحرب إلى مناطق أخرى عند استعانة الضعفاء بقوى جديدة.

فشل جهود الملك عبد الله لكبح جماح قطر:

فيبدو أن الدوحة عندما قبلت شكلياً الاتفاق مع الملك عبد الله بن عبد العزيز سنة 2014م حول غل يد قطر إعلامياً وعدم التدخل في شئون مصر، وغيرها من الطلبات التي مررت للدوحة مع تهديد مبطن بعقاب جماعي رادع في حالة النكوص، وقد أظهرت الدوحة القبول مضطرة حتى تقوم بتجهيز نفسها لمقاومة العقوبات المترتبة على رفض المطالب السعودية الإماراتية، التي كانت الدوحة ترى انها تنتقص من سيادتها، وتقوض قوتها الناعمة، وبذلك تكون الدوحة قد اختارت توقيت المعركة بعد جهوزيتها لها.

استعداد قطري:

ومنذ 2014م، سابقت الدوحة الزمن في إنشاء تحالف تركي يقوي جبهتها وموقفها امام الجيران بعقد الاتفاقية في العام 2014م، فالعلاقات التركية القطرية هي علاقة تحالف: رسمي – ثنائي – ندي – دفاعي – دائم – معلن – بين دولتين متباعدتين جغرافيا.

وقد أعدت الدوحة خطة لمقاومة القطيعة في كافة المجالات، وبدا أنها كانت جاهزة مسبقا عند إعلان الرباعية القطيعة وغلق الحدود، حيث تدفقت المواد الغذائية بالطائرات من تركيا، كما لم تتأثر مشاريع البنية التحتية المرتبطة بكأس العالم، لوجود خطط إمداد من مصادر بديلة.

لما لم تعول قطر على الوجود الأمريكي في قاعدة العديد:

والسؤال هو لماذا لم تعول قطر على الوجود الأمريكي في قاعدة العديد كما أسست حساباتها طوال العقدين الماضيين؟

فيبدو أن قطر إما نما إلى علمها تذبذب لبعض الدوائر الأمريكية في الموقف بينها وبين محور الرياض-ابوظبي، أو أنها استبعدت مبكرا التهديد بالاجتياح العسكري، وأن التهديد سيكون في صورة حصار اقتصادي، لذلك رأت في تركيا حليفا قادرا على إمدادها بما تحتاجه وسط محيط خليجي لم تكن تثق بمواقفه، ثم عندما انقسمت المؤسسات الأمريكية حول الصراع، فغازل ترامب الرياض سعيا للمزيد من الغنائم، بينما وقف البنتاجون والخارجية على الحياد مع رفض اجتياح عسكري، زادت حينذاك أهمية الحلف مع الاتراك.

دوافع الأتراك:

أما دوافع أنقرة لتأسيس الحلف مع قطر، فهناك:

- دوافع خارجية، فهي تخدم استراتيجية تركيا في استعادة دورها الإقليمي مرة أخرى خصوصا مع اقتراب معاهدة لوزان المكبلة لها على الانتهاء، حيث شرعت تركيا في نشر اجنحتها بعيدا في عدة دوائر، كالبحر الأحمر عبر السودان، والتجمع التركي في آسيا، والتغلغل في افريقيا الغربية، وأخيرا بخلق قواعد عسكرية لها بالخليج العربي، وقد ساومت عليه دول الخليج جميعا طوال هذا العقد.

وضمن الدوافع الخارجية، استغلال منبر الجزيرة الإعلامي القوي للوصول الى الوعي العربي، بغية رسم صورة ذهنية تخدم الزعامة العثمانية التي ينشدها الاتراك.

كما ان نجاح الدعم التركي لقطر عبر هذا الحلف سيزيد من الوزن النسبي لها كصانعة للأحداث بالإقليم، وهو دعوة مبطنة للمزيد من الحلفاء للوذ بالحماية التركية.

- دوافع داخلية، فلهذا الحلف تأثير على الداخل التركي أيضا، لتثبيت انتصارات أردوغان السياسية والاقتصادية، حيث من المتوقع عند التحالف مع دولة ثرية مثل قطر أن تزداد فرص الاستثمار التركي في ظروف استثنائية كتلك خصوصا أبان الحصار الرباعي، كما ان لتركيا أجندتها الثقافية القومية التي لا يستهان بها، ولأردوغان اجندة شخصية في مناصرة الربيع العربي ويحتاج الى قطر التي تملك قناة الجزيرة المؤثرة في الوعي العربي.

 

رابعاً: وسائل الدوحة لتقوية التحالف مع الأتراك

 

اتخذت الدوحة وأنقرة وسائل مشتركة لتقوية التحالف وزيادة تمتينه، منها:

 

1.     بناء الثقة بالانحياز في الشدائد.

2.     نمو تركي بمشروعات قطر للبنية التحتية والعسكرية والطاقة.

3.     اقتران إعلامي عالي التنسيق بين البلدين.

4.     زيادة الميزان التجاري والقطاع البنكي.

5.     تركيا الأولى سياحياً للقطريين ونمو مطرد للعمالة التركية.

6.     "الدوحة تتعثمن". فرض الثقافة التركية على المشهد.

 

 

1.    بناء الثقة بالانحياز في الشدائد:

النضج الحالي في العلاقة بين أنقرة والدوحة، كانت نتاج سلسلة طويلة من إجراءات بناء الثقة المتبادلة، والانحياز الكامل في الشدائد، بدأها حمد بن خليفة، واستكملها تميم.

ومن أهم المحطات التي انحازت فيها قطر إلى شرعية أردوغان في أحداث انقلاب يوليو 2016م، ووظفت قطر آلتها الإعلامية العربية والدولية لنقل الرسالة التركية، ومتابعة الاحداث اليومية لتصفية جيوب الانقلاب، وتسويق وجهة نظر أردوغان وتياره، ولا شك أن وقوف الدوحة بجوار أردوغان في محنته كان له أثرا بالغا على أردوغان وتياره، وهناك محطة أخرى هامة، عندما دعمت قطر تركيا ضد الهجمة الاقتصادية الأمريكية السعودية في أغسطس 2018م، من خلال ضخ استثمارات مباشرة بقيمة 15 مليار دولار.

وفي ذلك صرح أردوغان تصريحه الشهير يوم الاحد 13 يناير 2019م، أن بلاده لن تنسى تضامن الأشقاء القطريين مع تركيا في محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو 2016، وخلال الهجمة الاقتصادية التي استهدفت أنقرة في أغسطس الماضي. (6)

 

2.    نمو تركي بمشروعات قطر للبنية التحتية والعسكرية والطاقة:

تعد ورقة قطاع الإنشاءات القطري من أهم أوراق الدوحة السياسية لخلق مصالح متبادلة مع الدول، فمن المبرر دائما أن تدافع الدول عن مصالح شركاتها الدولية العاملة وراء البحار، وهو ما أكسب قطر أوراقاً مع عدد من الدول المهمة والمتنفذة بالساحة الدولية.

وقد تواجدت بعض الشركات التركية منذ 2006م، وكان الشيخ حمد بن جاسم يشغل منصب رئيس مجلس إدارة هيئة الأشغال العامة ورئيس صندوق الاستثمار القطري السيادي، إلى جانب وزارة الخارجية آنذاك، حيث قرر حمد كاستخلاص للعبر من دورة الأسياد سنة 2006م، عدم الاعتماد على السوق المحلي الضعيف في إنشاء بنية قطر التحتية الواعدة، ودعوة كبريات الشركات العالمية للمساهمة بحصص واعدة في السوق القطرية، وقد أعلن عن ذلك في لقاء صحفي معه بقناة الجزيرة. (7)

وقد تصاعد التواجد التركي في هذا المجال بصورة كبيرة بعد التحالف بين البلدين، ففي 19 يوليو 2018م، قال محمد العبيدلي عضو مجلس إدارة غرفة قطر: أن حجم المشروعات التي تقوم بتنفيذها شركات مقاولات تركية تبلغ نحو 11.6 مليار دولار.

بينما تذكر المصادر التركية في يناير هذا العام 2019م أن عدد الشركات التركية القطرية المشتركة العاملة في قطر (بنظام الكفيل) يصل إلى 242 شركة، بينما يبلغ عدد الشركات التركية حوالي 26 شركة، وشركات البناء التركية تشكل القوة الدافعة للاستثمارات التركية في قطر، حيث قاموا بتنفيذ 119 مشروعاً حتى الآن، وهو ما يعادل 16 مليار دولار. (8)

ومن التصريحين يتبين لنا أن الشركات التركية حصلت في ثمانية أشهر فقط على مشاريع ب 4 مليارات دولار، وما زال العدد في اطراد سريع بعد حصار قطر.

ومن بين هذه المشاريع: متحف الفن الإسلامي، ومطار الدوحة الدولي الجديد، مركز قطر الوطني للمؤتمرات، طريق سلوى، طريق الشمال، مشروع خط أنابيب غاز راس لفان إلى مسيعيد، والمرافق البرية لشركة قطر غاز، وغيرها.

ولا يخفى ما تدره هذه المشاريع على الخزينة التركية من أموال، وكذلك توفير فرص عمل جيدة للمهندسين والفنيين الاتراك، مع التغلغل في الاقتصاد القطري بتثبيت أقدام هذه الشركات، بسبب أن أكثر هذه الشركات قائمة على الائتلاف مع قطريين حسب نظام الكفالة.

وفيما يلي سأقوم بعمل تقرير سريع عن أكبر ثلاثة شركات مقاولات تركية تعمل حالياً في قطر، وأهم المشاريع المليارية التي تقوم بها:

 

شركة تكفن Tekfen:

سجلت شركة تكفن في قطر سنة 2005م، وحصلت بعدها مباشرة على مشروع طريق الشمال السريع، وهو أطول طريق في قطر بطول 117 كيلو متر، وظلت الدوحة تكلف تكفن بأعمال إضافية على هذا المشروع طوال 8 سنوات، حتى تبقيها بالسوق أطول فترة ممكنة.

ثم قامت بتكليفها بإنشاء طريقي خدمات على جانبي طريق الشمال والعديد من الجسور الجديدة، وهو ما زاد على قيمة المشروع الأول.

كانت هيئة الأشغال العامة قد أعلنت عن مناقصة كبرى لطريق الخور الساحلي الجديد الذي سيربط مدينة اللوسيل بمدينة الخور ويمر بإستاد "البيت" الخاص بكأس العالم 2022م، وقد أعقب ذلك زيارة لأردوغان إلى الدوحة، حيث رافقه الأمير تميم في نزهة بالسيارة بطول الطريق، ثم صدر في نفس اليوم من "المكتب الهندسي الخاص" قرار بتكليف شركة تكفن بالمشروع بقيمة 7.5 مليار ريال قطري.

وبعد الانتهاء من المشروع في مارس 2019م، فقد تقرر تأخر افتتاحه إلى أبريل كي يحضر وزير المواصلات التركي حفل الافتتاح، وهو نوع من الاستثمار السياسي الإعلامي للطرفين حيث يظهر أردوغان كجالب للاستثمارات الكبيرة لبلاده.

كما حصلت تكفن حديثا على عقد ب 0,7 مليار ريال لإنشاء طريق جديد، وحصلت على جزء من عقد خط قطر ريل (مترو) بمنطقة الوكرة، وحصلت على عقد إنشاء استاد الثمامة الخاص بكأس العالم 2022م.

وكان أهم ما حصلت عليه تكفن مشروعا لإنشاء منشأت عسكرية للجيش القطري يرجح أنها تتعلق باحتياجات القوة التركية المقيمة بالدوحة، وتجهيز القاعدة العسكرية التركية المنصوص عليها بالاتفاقية.

 

شركة يوكسال Yuksel:

كانت يوكسال أول شركة تركية كبيرة تتواجد في قطر، وحصلت الشركة سنة 2010م على عقد إنشاء طريق سلوى (الحزمة 7) بقية 1,6 مليار ريال.

ورست عليها مناقصة مشروع تطوير طريق شمال البستان، ثم اعتذرت عنه بسبب هبوط الليرة التركية الشديد قبيل الانقلاب الفاشل سنة 2017م، وقبل منهم الاعتذار استثنائيا دون اية خسائر، فانتقل المشروع للمقاول التالي.

وهذا العام حصلت يوكسال على مشروع تقاطع الدحيل.

 

شركة دوغوس Dogus:

 

سجلت شركة دوغوس في قطر سنة 2012م، حصلت الشركة التركية سنة 2010م على عقد تطوير طريق الريان الحزمة 2 بقية 4,7 مليار ريال، ويتضمن إلى جانب الطريق السريع، إنشاء نفق بثلاثة مستويات هو الأكبر في قطر.

وقد أخبرني أحد الزملاء الأتراك أن مالكي هذه الشركة يعدون من أقرب المقاولين إلى تيار الرئيس أردوغان.

 

وفي مجال الاستثمار العقاري: تأسست عشرات الشركات التركية في الدوحة، وأغلب عملها في تسويق بيع وادارة الوحدات السكنية بإسطنبول والمدن التركية، ويصلك بصورة شبه يومية رسالة SMS للترويج لهذه الوحدات بالتقسيط المريح، وقد لمست اندفاع قطاع من القطريين في شراء وحدات سكنية وتأثيثها وتأجيرها عن طريق هذه الشركات التي تعمل في إدارة العقارات بالإنابة.

 

وعلى صعيد المشروعات العسكرية: ترتبت عدة واجبات على الطرفين بعد سريان الاتفاقية العسكرية بين تركيا وقطر في يونيو 2017م، حيث تحتاج القاعدة العسكرية إلى الانشاء وإلى تزويدها بالتجهيزات اللازمة، كما ترتب شق في الامداد والتجهيز اللوجستي يمكن الشركات التركية من إمداد الجيش القطري بالزي الرسمي والأجهزة والدعم اللوجستي.

وقد تولت شركة تركية تصنيع وتوريد الزي العسكري والمنسوجات والامدادات الأخرى للجيش القطري من خلال عقد بقيمة 100 مليون دولار. 

وخلال العام الماضي 2018، حظيت شركات تركية بعدة صفقات دفاعية وعسكرية بقيمة 15 مليار ريال (4.12 مليارات دولار)"، وفقاً لما ذكرته وكالة الأناضول.

تسلمت وزارة الداخلية القطرية من تركيا في 10 ديسمبر 2017م، سفينة "150 Hercules OPV" تركية الصنع، والتي وصفت بالأسرع في العالم، والتي صنعتها شركة اريس "Ares Irketi" التركية لصناعة السفن مقابل 300 مليون دولار. (9)

 

وعلى صعيد مشروعات الطاقة: حصلت بعض الشركات التركية على عقود واعدة في مجال الطاقة في قطر، منها مشروع خط أنابيب غاز راس لفان إلى مسيعيد، والمرافق البرية لشركة قطر غاز، وغيرها.

قمت قطر للبترول وشركة بوتاس التركية بتوقيع اتفاقٍ في 2 ديسمبر الماضي في الدوحة، يجعل تركيا مسارا من مسارات توريد الغاز القطري الى اوروبا. (10)

 

3.    اقتران إعلامي عالي التنسيق بين البلدين:

رأينا كيف أبرز إعلام البلدين مدى تطابق وجهة نظر الدوحة وأنقرة في مختلف المواقف السياسية، خصوصا الدرامية منها:

-         يبدأ من وقوف الاعلام القطري بجانب أردوغان ضد الانقلاب الفاشل في يوليو 2016م.

-         وحشد الإعلام التركي لرفض حصار قطر في يونيو 2017م، والتصدي لمواقف السعودية والإمارات ومصر.

-         نقل قناة الجزيرة الحي لتصريحات أردوغان اليومية، ووجهة نظر حزب العدالة والتنمية في الأحداث الداخلية بتركيا على الصعيد المحلي التركي.

-         انحياز الاعلام التركي لموقف قطر من حصار الرباعية لها، وانه ضد الأعراف والقوانين الدولية.

-         تطابق الإعلام القطري التركي في تصعيد المعارضة ضد السعودية والامارات في حربهما على اليمن.

-         تطابق الموقف من المعارضة السورية ونشاطات تركيا بشمال سوريا.

-         دعم حكومة الوفاق في طرابلس الليبية ضد حفتر (الخيار المصري الاماراتي).

وغير ذلك من عشرات التطابقات في وجهات النظر بين إعلام البلدين، وأبرز أمثلة الاقتران الإعلامي بين البلدين، تناغم الإعلام القطري التركي في قضية اغتيال خاشقجي، حيث كانت هناك عدة محطات ينبغي تأملها لتحليل الظاهرة:

§        تنسيق مبكر: دلل السبق المبكر لمحمد المختار الشنقيطي، أستاذ الاخلاق السياسية في جامعة قطر والمقرب من الدوحة، بالتأكيد في تحليله اليومي بقناة الجزيرة على قتل وتقطيع خاشقجي داخل القنصلية منذ يوم 3 أكتوبر وقبل أن يوثق الخبر، وتكرار ذلك أيضا في نفس اليوم بتعليقات د أسامة فوزي رئيس تحرير عرب تايمز -هيوستن المقرب من قطر في اليوتيوب، دل هذا السبق على أن الحكومة القطرية تلقت تأكيدات مبكرة من اليوم الأول من حليفتها تركيا حول ملامح الورطة الكبيرة التي وقع فيها غريمهما الإقليمي محمد بن سلمان.

§        علو مستوى التنسيق: ظهر التنسيق الفوري الكبير بين تركيا وقطر بسبب التواصل التركي العالي المستوى المتمثل بمستشار الرئيس أردوغان السياسي ياسين أقطاي واتصاله المباشر بالدوائر السياسية والصحفية في قطر.

§        توظيف كامل للجزيرة: وظفت قطر تروس آلتها الإعلامية القوية (قناة الجزيرة) من اليوم الثاني للازمة حيث فتحت نافذة إعلامية من إسطنبول وكرست كل البرامج بلا استثناء لتناول الموضوع على مدار الساعة.

§        التدرج الدرامي: حيث تدرجت اللغة الإعلامية القطرية في شدتها وفق السيناريو الدرامي التركي للأحداث، فرغم معرفتها للحقيقة واطلاعها على التسجيلات مبكرا الا انها تدرجت بخطابها حسب ما طلبته أنقرة.

كل هذه مؤشرات قوية على اقتران الألة الإعلامية للبلدين، كما أشرنا سابقاً كوسيلة متبادلة من الطرفين لتقوية التحالف الثنائي وتعميقه.

 

4.    زيادة الميزان التجاري وتمدد القطاع البنكي:

تصدر تركيا إلى قطر المعدات العسكرية والصلب والأثاث والآلات والأجهزة الكهربائية. وفي المقابل أيضاً تزداد الاستثمارات القطرية في تركيا بصورة مستمرَة حيث تبلغ نحو 20 مليار دولار أميركي. (11)

وقال كوروتشايلي، عضو مجلس إدارة معرض "أكسبو تركيا في قطر" تصريحه الشهير في يناير 2019م:

" إن الصادرات التركية إلى قطر ارتفعت بنسبة 61٪ ووصلت إلى 1.2 مليار دولار في الفترة ما بين 2017-2018، ومن المستهدف أن تصل إلى ما بين 2.5 إلى 3 مليارات دولار" وأشار أيضا إلى أن "أكثر من 150 شركة قطرية تأسست في تركيا بعد الحصار (يونيو/حزيران 2017)، وأكثر من 300 شركة تركية تعمل في قطر، التي رفعت دعمها لتركيا بعد الموافقة على صفقة تبادل العملات بقيمة 3 مليارات دولار". (12)

وقد فتح باب الاستثمار بين البلدين على مصراعيه، مع إقبال كبير من المستثمرين من الشعبين، وانتشرت بضعة مواقع توفر خدمة الدليل للشركات التركية في كافة المجالات، ومنها على سبيل المثال، دليل الشركات الصناعية في تركيا:  https://www.adwhit.com/companies/gas

وفي القطاع البنكي: فإن قطر تحتاج إلى قطاعات بنكية آمنة ومستقرة، تأتمنها على تنمية صناديقها السيادية وقطاعها البنكي، فقد اشترت قطر اثنين من أكبر البنوك في تركيا:

-         استطاع البنك التجاري القطري أن ينهي الاستحواذ على حصة الأغلبية في بنك الترناتيف التركي.

-         اشترى بنك قطر الوطني كامل حصص «فينانس بنك»، والذي يعد واحدا من أكبر البنوك في تركيا.

وقال السفير التركي في حوار مع جريدة العرب القطرية، إن صفقات الاستحواذ التي أتمها كل من البنك التجاري QNB  لن تكون الأخيرة. وخلال الأعوام الأخيرة أصبح الريال القطري عملة قابلة للتحويل في تركيا، حيث يمكن لأصحاب الأعمال إجراء تحويلاتهم بالعملات المحلية. (13)

 

5.    تركيا الأولى سياحياً للقطريين ونمو مطرد للعمالة التركية:

منذ سنة 2008م، قامت الجزيرة بإيعاز من الحكومة بالتسويق للسياحة في تركيا، لدرجة أن المذيع سأل الشيخ القرضاوي هل يفضل السفر الى تركيا أم الى أوروبا، ورد القرضاوي بفتوى تؤكد على ان السفر الى تركيا اوجب.

ولم يكن عدد القطريين الذين يأتون إلى تركيا يتجاوز 5 آلاف شخص، فتجاوز عدد الزوار القطريين 35 ألف زائر في 2015م, ثم أصبحت تركيا الوجهة الأولى للقطريين, وقد بلغ عدد المسافرين من قطر لتركيا هذا العام 110 آلاف شخص؛ وهو رقم كبير أذا علمنا أن عدد القطريين 300 ألف نسمة، ويواكب هذا الخيار وجود 50 رحلة طيران بين البلدين أسبوعياً. (14)

وعلى صعيد الاستثمار السياحي التركي في قطر، فستقوم سلسلة فنادق إنترناشيونال لوكسري رينيوز إنترناشونال التركية بإنشاء وتشغيل أكبر منتجع ترفيهي شامل مع شركة كتارا للضيافة في قطر.

 

وفي ملف العمالة التركية: فقد استقدمت الحكومة القطرية مئات المهندسين الأتراك، وانتشروا بصورة واضحة في أغلب الإدارات في هيئة الاشغال العامة ووزارة البلدية وغيرها من الإدارات الحكومة، وصاروا من اهل الثقة في بعض هذه الادارات.

كما أن هناك مذكرة تفاهم لجلب مجموعة من الأطباء والممرضين الاتراك في القطاع الصحي في قطر.

ويتصف الاتراك عموما بالخبرة، لكن مع ضعف في التحدث بالإنجليزية، مما يقلل من فرصهم في التواصل مع البيئة الخليجية، التي تسود فيها اللغة الإنجليزية في المجالين الهندسي والصحي، ولعل هذه النقطة الأساسية التي ستبقي العمالة المصرية في المقدمة خليجياً.

 

6.    "الدوحة تتعثمن".

طفو الثقافة التركية على المشهد:

دعيت منذ أيام إلى حفل سحور بالقاعة الرمضانية في أحد أكبر فنادق الدوحة، وتفاجأت باستقدام الفندق لبهلوانات أتراك من الذين يرقصون على الأناشيد الصوفية ويحيط بخصرهم فوطة مزخرفة، وهذه الرقصة موجودة بمصر أيضا ونعرفها جيداً كمصريين، إلا أنها غير معروفة للقطريين، لكن شيئاً طرأ على الدوحة في العامين الأخيرين، فاستبدل المغنين المصريين او الشوام, أو حتى منشدي حلب براقصي فلكلور أتراك (مرفق صورة) (17)

وإذا أردت التنزه في ساحة سوق واقف التراثية في قلب الدوحة، فسيلفت نظرك من أول وهلة بائع البوظة التركي الذي يلبس ملابس فلكلورية تركية (قميص مزخرف وسراويل واسعة حمراء)، وكذلك سيلفت انتباهك رجل آخر يتقلد سيوفا ودروعا تركية وله شوارب تركية ضخمة، يقف للأطفال ليلتقطوا صوراً معه (مرفق صورة) (17).

نعم إنها "الدوحة تتعثمن".

عندما توفرت إرادة التحالف بين البلدين، اهتمت أنقرة بإظهار تأثيرها الثقافي، فأطلقا معا "العام الثقافي التركي القطري" في 2015م، وتخللته فعاليات وأنشطة المشتركة في كلا البلدين، تهدف للتعارف الثقافي وتعزيز العلاقات على المستوى الشعبي.

وفي عام واحد سارعت أنقرة بافتتاح مركز «يونس أمره» الثقافي في الدوحة، وتم افتتاح أول مدرسة تركية رسميا في ديسمبر 2016. (15)

وحرصت أنقرة والدوحة على تواجد "الاتحاد التركي للرياضات التقليدية" وهو يقدم الرقصات الفلكلورية التركية وهو يشابه " فرقة رضا المصرية"، حيث قدم عروضا قوية على هامش معرض اكسبو الصناعي رغم بعد موضوع المعرض عن الفلكلور، كما قابلته الدوحة بمشاركة تراثية لإبراز الألعاب التقليدية القطرية الصقور وغيرها. (16)

 

 

خامساً: تهديدات الحلف على المصالح المصرية

- تهديدات لأمن مصر القومي

- تهديد لقوى مصر الناعمة

- خسائر اقتصادية

 

- تهديدات لأمن مصر القومي:

كسر مبدأ خلو المنطقة من الاحلاف العسكرية:

لا يخفى تاريخيا أن مصر وقفت دائما سدا منيعا مقاوما لأية تحالفات عسكرية في المنطقة العربية لما يربو عن الخمسين عاماً، وذلك لأن التحالفات هي أحد أهم أسباب اندلاع الحروب بين الدول، ولنا في أسباب اندلاع الحربين العالميتين عبرة في ذلك، فكان "عدم الانحياز" أحد أهم المبادئ الأساسية في السياسة المصرية، وكانت عضوا مؤسسا في حركة عدم الانحياز بجوار الهند ويوغسلافيا.

لذلك وقفت مصر ضد حلف بغداد بشدة، كما وقفت ضد توسع حلف الناتو جنوبا ليشمل دولا عربية، وبادرت بطرد الخبراء الروس قبيل حرب أكتوبر رغم حاجة المجهود الحربي لهم في ذلك الظرف الدقيق، وذلك للحفاظ على استقلال قرارها.

 

اقتصاص من مجال مصر الحيوي:

وعامل استراتيجي آخر، أن الوطن العربي هو مساحة العيش المصرية كقوة إقليمية مركزية، تحتاج لخلوه من المزاحمة من أية قوى بالإقليم، للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، ويتوقع الجميع منها ذلك، ولم يستثنى حتى في أكثر فترات الضعف عبر التاريخ، ومن البديهي أن تلك المكانة الاستراتيجية يقوضها أي اختراق أو مزاحمة من القوى المجاورة لهذه المساحة، سواء أكانوا الاتراك أم الفرس، قد يذهب بخيرات المنطقة الى غير أهلها.

 

- تهديد لقوى مصر الناعمة

ترتكز مصر على قواها الناعمة المتنوعة والغنية لتحقيق مصالحها بمنطقتها العربية، وهي قوة تراكمية بنتها مصر طوال قرن من الزمان.

خطر تآكل العمالة المصرية:

ومن أهم روافد قوة مصر حاجة الدول إلى العمالة المصرية ذات الجودة العالية حيث وجد المصريون المؤهلون في قطر من قبل استقلالها، وتراوحت قيمتهم ما بين استاذية المعلم، وحماية الحارس، ونصح المستشار، وزعامة القائد.

ورغم أن العلاقات المصرية القطرية كانت في فتور طوال فترة حكم الأمير حمد بن خليفة بسبب اشتراك مصر في مشروع الانقلاب الذي دبره والده لاستعادة حكمه سنة 1995م، إلا أن قطر ظلت تعتمد بقوة على العمالة المصرية لحاجتها لها، وكان ذلك أحد مظاهر قوة مصر الناعمة التي لابد للدوحة منها.

إن هذه القوة مهددة اليوم، لأنها مرتبطة باستمرار ذوي المؤهلات من المصريين في وظائفهم، وهذا وعته الدوحة فأوقفته وأعادت رسم خريطة التوظيف من جديد، حيث اعتمدت على الاسبان والبرتغاليين واليونانيين لملء فراغ المصريين والسوريين، وحديثا بدأ المهندسون والأطباء الأتراك في التدفق تقوية للحلف الجديد، كما ان الموظفين يجلبون أقاربهم ليحدث توسع بديهي مع الزمن للجنسية التركية في التوظيف، ولا شك أنه على حساب العمالة المصرية والعربية.

ويعد الأتراك منافسا قويا للمصريين في القدرة على توفير ألوفٍ من المهندسين والأطباء الأكفاء، رغم افضلية المصريين في اللغتين العربية والانجليزية، وهذا ما يمنع الاتراك من التغلغل في قطاع التعليم والحمد لله.

خطر تراجع الريادة الفنية والسينمائية المصرية:

ومن أهم روافد قوانا الناعمة ريادة مصر في ملفات الفن والسنيما والاعلام والثقافة، فهناك ناقوس خطر كبير من انتشار المسلسلات التركية على الثقافة العربية عموما، وعلى قوة مصر الناعمة في المجال الفني، وهذه الظاهرة مشتركة في بلدان الخليج جميعا، حيث اندفعت عدة دول خليجية في عرض المسلسلات التركية التاريخية مثل قيامة ارطغرل وغيرها، بعد أن انعدمت المسلسلات المصرية التاريخية والدينية لما يزيد عن15 عاما تاركة الساحة للأتراك ليسدوا هذا الفراغ في العقل الجمعي العربي.

خطر منافسة الجامعات التركية للمصرية:

ودراسة الشباب العربي في الجامعات المصرية كان ولايزال أهم مرتكزات الريادة العلمية والثقافية المصرية في محيطها العربي، حيث كان الولاء الوجداني لخريجي الجامعات المصرية لها يحافظ على مكانتها ويضمن تحقيق مصالحها مع هؤلاء الخريجين بعد عودتهم الى بلادهم وتقلدهم الوظائف.

إن فتح بعض الجامعات التركية ذراعيها للقطريين، بدلا من الجامعات المصرية يحمل تهديدات للمصالح المصرية السابق ذكرها، وتكوين جيل خليجي جديد يدين بالأستاذية لتركيا، مع إمكانات تجنيد اعداد منهم اثناء دراستهم.

ونلاحظ جميعا إعلانات الجامعات التركية الغزيرة بمواقع التواصل الاجتماعي عن فتح ابوابها للدراسة باللغتين العربية والإنجليزية، وذلك ترغيبا للخليجيين، وتذليلا لصعوبات الدراسة باللغة التركية.

 

- خسائر اقتصادية

حقيقة لم تجر دراسات دقيقة عن الخسائر المحتملة من مقاطعة مصر لقطر، خصوصا أن العلاقات المصرية القطرية كانت في فتور طوال فترة حكم الأمير حمد بن خليفة بسبب اشتراك مصر في مشروع الانقلاب الذي دبره والده لاستعادة حكمه سنة 1995م، لذلك فلا نستطيع مبدأياً رصد خسائر اقتصادية حكومية مباشرة، لعدم وجود مشاريع مشتركة بين البلدين طوال العقدين المنصرمين.

وتنحصر العلاقات الاقتصادية منذ القطيعة في التحويلات البنكية للمصرين العاملين، وهي لم تمس من قبل الدوحة، ويصعب المساس بها لأن تكلفة هذه الخطوة باهظة الثمن على الدوحة. وقد يتوقف نمو تحويلات المصريين البنكية في الفترة المقبلة، نتيجة لوقف استخراج تأشيرات عمل جديدة للمصريين.

ومن جهة أخرى فإن الخسائر الاقتصادية كانت من حظ موردي السلع الغذائية المصريين، حيث أدى غلق الحدود إلى القضاء على هذه السلع المصرية الراسخة في الدوحة، حيث كانت المنتجات الغذائية المصرية تنتشر بكثرة في صورة الأنواع الجيدة من لحوم البتيلو والاجبان والحلويات، والأرز والحبوب والخضروات المحفوظة.

وبدأت بعص السلع التي تقبل نظام الموانئ الوسيطة تعود إلى أسواق الدوحة على استحياء مشحونة عبر مسقط.

 

سادساً: التوقعات المستقبلية:

التحالف التركي القطري من وجهة النظر الاستراتيجية هو تحالف مفيد للطرفين إلا أنه غير دائم، وذلك للأسباب الآتية:

1.     استراتيجيا فإن التباعد الجغرافي بين البلدين لا يسمح بدعم عسكري تركي حقيقي عند الحروب الحقيقية، فتركيا لا تملك إمكانات نقل كميات كبيرة من القوات.

2.     طبيعة العلاقة من وجهة نظر الطرف القطري هي علاقة نفعية متقلبة حسب الاستقراء التاريخي ومرهونة بالظروف المحلية، وتجيد الدوحة التنقل بين الاحلاف لحماية نفسها.

3.     الوجود الأمريكي في قطر يحجم الوجود العسكري التركي ويمنع توسعه أكثر من صورة "قوات تدخل سريع" لحماية النظام القطري.

4.     تقلبات الداخل التركي تحمل مستقبلا غير مضمون للقطريين إذا ذهب أردوغان.

5.     هناك استفادة اقتصادية كبرى لأنقرة من التحالف، ومن البديهي أن ذلك ضد الإرادة الأمريكية.

6.     نحتاج أن نضع في اعتبارنا أن هذا التحالف قد يكون بمباركة أمريكية، فالدوحة تدرك أن علاقتها بالبيت الأبيض هو الأولوية الأولى في سياساتها، ويسبق أية علاقات أخرى، ومنها التركية، كما أن التقارب مع الاتراك استغرق مدة طويلة تحت نظر الإدارات الأمريكية، فقد بدء في 2010م، ووقعت المعاهدة في 2014م، ونفذت في 2017م.

 

 

 

الجزء الثاني:

توصيات مساعدة في تقدير الموقف

 

 

1.     "سياسي" محاربة أسباب لجوء الدول الصغيرة للأحلاف الخارجية: فمن الواضح من استقراء التاريخ المعاصر, أن تهديد الجارات الكبيرة يؤدي الى جلب قوى اجنبية للمنطقة، مثل حالة تهديد العراق للكويت، حيث بدأ عهد القواعد الامريكية الدائمة بالمنطقة، وكذلك تهديد السعودية لقطر في القرن الماضي دفعها للانضمام الى العثمانيين تارة والى البريطانيين تارة، وكذلك تهديدات السعودية في التسعينات دفع المنامة لاستضافة قواعد أمريكية وبريطانية، ودفع الدوحة لتأجير قاعدة العديد للجيش الأمريكي, ودفعها اليوم للحلف مع الاتراك, كما تحركت الكويت لعقد معاهدات و تأجير جزر للصين, وترجم ذلك امير الكويت بقوله "الان نستطيع النوم ملء جفوننا".

 

2.     "سياسي" رفع مستوى تبني ريادة الفن: ينبغي للقيادة السياسية المصرية إدراك أهمية الحفاظ على الريادة الفنية كجزء رئيسي في قوى مصر الناعمة، وان يقودها مفكرون وأكاديميون، ولا نتركها للإدارات القائمة وحدها، ولا لأهل القطاع الذين لا يملكون النظرة القيمية، والذين أوصلوا الحالة بسبب الحرص على جني الارباح إلى وضع مقلق على ريادة مصر. ونحن هنا نثمن بشدة السياسات الجديدة للمجلس الأعلى للإعلام، ولجنة الدراما به، وتصديها ل “الألفاظ البذيئة والسوقية والإيحاءات الجنسية ومشاهد العنف وتمجيد الجريمة وتشويه صورة المرأة ومشاهد التدخين والخمور", وأن تدعم القيادة السياسية هذا التوجه, لأنه أقرب الطرق للعودة للريادة المصرية الاعلامية. (17)

 

3.     "اعلامي" سرعة سن قواعد واشتراطات جديدة: لبرتوكولات القنوات الفضائية تلزمهم بنسبة من 10 الى 15% مسلسلات تاريخية ودينية من اجمالي المسلسلات على مدار العام كشروط في خريطة القناة، وهذا سيحل مشكلة احجام المنتجين عنها، وكي نستطيع ضرب تقدم المسلسلات التاريخية التركية الزاحفة للجماهيرية بقوة، ولإعادة توازن المسلسلات المصرية في مخاطبتها للوجدان العربي.

 

4.     "سياسي/اعلامي" التنسيق مع دول الخليج لحصار المسلسلات التركية والهندية المدبلجة: ومنع انتشارها. مع حملة علاقات من اعلى المستويات لدعوة الاشقاء للعودة لتبني المسلسلات المصرية والأفلام المصرية.

 

5.     "اعلامي" تخصيص برامج تخاطب الشعوب العربية: وعدم قصر الخطاب على الداخل المصري باللهجة المصرية فقط، ليعود اعلام مماثل لحالة "صوت العرب" و "الشرق الأوسط".

 

6.     "سياسي/تعليمي" رفع مستوى الاستضافة الطلابية: كما اوضحنا في الجزء الأول أهمية إبقاء الجامعات المصرية مفتوحة، وأهمية الخريجين العرب لقوة مصر الناعمة ولريادتها، فنوصي بوضع برنامج سريع يفتح ذراعي مصر عمليا لاستضافة الخليجيين والعرب مرة أخرى، يراعي البرنامج إيجاد نقاط تفوق حاسمة كالتكلفة والجودة والتسهيلات وتوفر السكن الداخلي، وذلك للتغلب على واقع ان الجامعات المنافسة ذات مبانٍ وإمكانات اعلى بكثير. ان كل خريج هو شهادة لأهله على استاذية مصر وريادتها، وسيظل مشتركا معنا في كثير من القيم المنظمة للحياة.

 

 

تم بحمد الله.

 

 المراجع:

1.     جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م

2.     دليل الخليج. مجلد I. القسم التاريخي. الجزء II. ج. ج. لوريمر. ١٩١٥".

3.     الجزيرة نت، تعرف على الاتفاقية العسكرية بين قطر وتركيا. 10 يونيو 2017م

4.     عرضنا تفاصيل عن ذلك في تقرير سابق عن الحالة في قطر في 2017م، فارجع إليها للاستزادة.

5.     الجزيرة نت 14 نوفمبر 2017م.

6.     بي بي سي 16‏/08‏/2018، و ترك برس 13 يناير 2019م.

7.     لقاء تلفزيوني مع حمد بن جاسم بقناة الجزيرة.

8.     جريدة الشرق 16 يناير، حوار مع سفير تركيا، وجريدة الشرق 19 يوليو 2018م.

9.     جريدة العربي الجديد الالكترونية 15 يناير 2019م وجريدة الشرق 13 يناير 2019م وجريدة عربي 21 في 09 ديسمبر 2017, ترك برس 10 ديسمبر 2017.

10.   جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م (2) جريدة اللوسيل عدد 14 فبراير 2016م

11.   جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م

12.   ترك برس 16 يناير 2019م(1) جريدة الشرق القطرية 13 يناير 2019م

13.   جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م ترك برس

14.   جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م

15.   جريدة العرب القطرية عدد 18 يونيو 2016م

16.   ترك برس الشرق 13/1/2019م

17.   عربي بوست. 16/6/2019م

 

 

المرفقات: بالصفحة الأخيرة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نبذة عن معجم قبائل قطر لأيمن زغروت

  نبذة عن معجم قبائل قطر لأيمن زغروت معجم قبائل قطر - ط1 - دار أسامة للنشر - عمان الأردن إهــــداء     أهدي هذا العمل المضني إلى قطر الشقي...